الليبرالية الإسرائيلية، الإنكار والإبادة الجماعية
افي-رام تسوريف (صايغ)
ترجمة: إياد برغوثي
في كانون الثاني/يناير 2024، وبعد أسابيع قليلة من الدعوى التي تقدّمت بها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، متهمةً إياها بارتكاب إبادة جماعية، عيّنت الحكومة الإسرائيلية رئيس المحكمة العليا السابق، أهارون براك، ممثلاً لها في هيئة القضاة التي ستنظر في القضية. لم تتردّد حكومة اليمين في تكليف من اعتبرته حتى الأمس القريب عدوًا لدودًا خلال معركة “الإصلاح القضائي” التي أطلقها ياريف ليفين مطلع 2023. براك، بدوره، لم يتردّد في قبول المهمة: توفير غطاء قانوني ليبرالي يبرّر أفعال إسرائيل التدميرية.
جسّد الدور الذي أدّاه براك- الذي خلّف إرثًا طويلاً من تبرير الاحتلال الإسرائيلي قانونيًا- موقع التيار الليبرالي الإسرائيلي في صلب جريمة الإبادة ومساندتها. فبانخراطه النشط في حملة تدمير قطاع غزّة، وبإنتاج خطاب يصوّر جرائم السابع من أكتوبر التي ارتكبتها “حماس” كحوادث استثنائية بلا سياق، ثم بإنكاره المتواصل، صار “المعسكر الليبرالي” شريكًا فعليًا في مشروع الإبادة. كل ذلك مع حرصه على التمايز عن اليمين، الذي صُنف دعمه للإبادة بلهجة ليبرالية باعتباره “مسيحانيًا” و”هلوسة”. بالنسبة إلى المعسكر الليبرالي، شكّل الالتزام بالقيم الليبرالية، والنظام السياسي العالمي والتوجّهات العاطفيّة “الرصينة”، الأساس الذي سمح بتأطير الإبادة كـ”حرب عادلة” يقودها وكلاء “الحضارة”. بهذا، تم ترسيخ التفوّق الأخلاقي اليهودي-الإسرائيلي في مواجهة “البرابرة” و”الحيوانات البشرية”. أما الفلسطينيون، فكانوا يستحقون الشفقة ما داموا محجورين خلف أسوار غزة بوصفهم قضية إنسانية، أي كتعاطف لا يهدّد التفوّق اليهودي. لكن أحداث السابع من أكتوبر كشفت عن الطابع السياسي الذي لا يمكن إنكاره للوجود الفلسطيني، وهو ما رسم حدود “الرحمة الليبرالية”. من تلك اللحظة، كان لا بد من “إغلاق القلوب” أمام معاناة الفلسطينيين.
السؤال المركزي هو: ما الذي مكّن الليبرالية الإسرائيلية من دعم الإبادة؟ كما بيّن الباحثان يغيل ليفي وآريه كرَمف، مع صعود اليمين الصهيوني وتبني السياسات النيوليبرالية في الثمانينيات، بدأت الطبقة الوسطى العلمانية في إسرائيل بمراجعة “العقد المدني” الذي ربط بين الخدمة العسكرية والحقوق المدنية. ترافقت هذه المراجعة مع التشكيك في استخدام القوة العسكرية وإضفاء الشرعية على رفض الخدمة العسكرية. شكّلت حرب لبنان الأولى، التي وُصفت علنًا بأنها “حرب اختيارية” وأدّت إلى قتل جماعي ووحشي للمدنيين، نقطة تحوّل. انعكس هذا التحول في الثقافة الشعبية التي مثّلت بالأساس الطبقة الوسطى العلمانيّة، إذ وصف الكاتب شالوم حانوخ وزير الدفاع أريئيل شارون بـ”القاتل” الذي لا يقف عند “الضوء الأحمر”. وبدأت تظهر صور عمّال البناء والنظافة الفلسطينيين، الذين ملأوا تل أبيب وبنوا بناياته، تطفو في الأغاني، مثل “اخلط القصارة” لأهود بنّاي، و”يطلقون النار ويبكون” لِتسي هيمن، فيما وضعَت أغنية نوريت غَلرون “ومن بعدنا الطوفان” تل أبيب اللامبالية في مواجهة قطاع غزّة المشتعل خلال أيام الانتفاضة الأولى. أما فرقة “مشينا” فوجدت أن “العدو لم يعد مخيفًا، بل هو فقط بحاجة إلى الشفقة” – ملاحظة جسّدت جوهر السياسة الليبرالية الإسرائيلية في سنوات الانتفاضة.
رغم خروج هذه الليبرالية عن حدود الخطاب الصهيوني التقليدي، إلا أنها بقيت محصورة ضمن تخوم واضحة ارتبطت بالتربة التي نبتت منها: الرأسمالية المتأخرة، التي تتميز بتجاهل أسئلة الاقتصاد السياسي وتوزيع الثروة، أمّا بالنسبة للفلسطينيين، فقد نقلت مركز النقاش من مسألة تقاسم السلطة والموارد المادية إلى سؤال “الحساسية الإنسانية” والجوانب الرمزية فقط من القضية الوطنية. لم ينبع التشكيك في شرعية استخدام القوة من اعتراف يضرورة إنهاء الاحتلال والتوصل إلى حل سياسي لقمع الفلسطينيين الذي تعود جذوره إلى تهجير عام 1948. بل جاء أساسًا من إعادة صياغة صورة الذات: رسم جديد لملامح الفرد من أبناء الطبقة الوسطى العلمانية باعتباره “كائنًا حساسًا”. بُني هذا التصور على يقظة عاطفية تجاه معاناة الفلسطينيين، لكنها لم تُترجم إلى مطالبة بتغيير بنية القوة السائدة. لقد ارتبطت هذه الحساسية العاطفية برغبة في الاندماج بالبرجوازية العالمية، والتنقّل بحرية في أرجاء العالم، كمواطني دولة ديمقراطية- ضمن حدود عام 1967.
بالنسبة للإسرائيليين، شكّلت اتفاقيات أوسلو تحقيقًا لتطلعات أبناء الطبقة الوسطى: فتح أسواق جديدة، وجهات سياحية جديدة، وتعزيز وعيهم الذاتي الليبرالي. نظّم النقاش حول الاتفاقيات، إلى حدّ كبير، الحوار الداخلي في إسرائيل بين ليبراليين أرادوا الانسحاب من المدن الفلسطينية كخطوة نحو “الانفصال”، وبين المستوطنين الذين سعوا إلى تعميق الاستعمار الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومع ذلك، لم يرَ المعسكر الليبرالي في الاتفاق أساسًا لتحقيق حق الفلسطينيين في تقرير المصير أو الاعتراف بالقمع الإسرائيلي- بما يتجاوز، على الأقل، الجوانب الرمزية لذلك. إن رفض إسرائيل إدراج وقف الاستيطان ضمن الاتفاق، وتنازل زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، في هذه النقطة، عكسا حقيقة أن الاتفاق كان استغلالاً للضعف الفلسطيني وتعظيمًا للأرباح الإسرائيلية. وبالفعل، شهدت مشاريع الاستيطان طفرة كبيرة بعد توقيع الاتفاق.
انعكست نرجسية الليبرالية الإسرائيلية أيضًا، في مطلع الألفية الجديدة، في تحميل الفلسطينيين وحدهم مسؤولية اندلاع الانتفاضة الثانية، بما في ذلك قتل 13 مواطناً فلسطينياً من مواطني الدولة في تشرين الأول/أكتوبر 2000. فُسّرت الدوافع الفلسطينية لممارسة العنف في الانتفاضة الثانية، وما بعدها، باعتبارها “طموحات إبادة” ودليلًا على أنه لم يكن لهم أي اهتمام أصلاً بتنفيذ الاتفاق. جسّد انسحاب القوات الإسرائيلية من داخل قطاع غزة وإخلاء المستوطنات في إطار خطة “الانفصال” من دون اتفاق، مع الإبقاء على السيطرة الإسرائيلية على منافذ الدخول والخروج من القطاع، استمرارية المنطق النرجسي ذاته. جرى النقاش داخل إسرائيل حول “الانفصال” وكأن أطراف الصراع هم “اليسار” الإسرائيلي في مواجهة اليمين الاستيطاني، وهو ما يعبّر بالأساس عن الوعي الذاتيّ لدى المعسكر الليبرالي. أمّا انعكاسات وجود المستوطنات على حياة الفلسطينيين في غزة فلم تُناقَش إطلاقًا. أمّا حقيقة كون القطاع معزلًا حُشر فيه مئات آلاف اللاجئين بعد نكبة 1948، وما ترتّب عن ذلك من نشوء مخيمات اللاجئين، فلم تكن موضع نقاش.
صحيح أنّ “الانفصال” اعتُبر خط صدع للتيار الصهيوني-الديني، لكنه في الواقع بشّر بانتصاره الكاسح في الخطاب السياسي داخل إسرائيل. ففي الخطاب الليبرالي الذي تبلور بعد الانتفاضة الثانية لم يعد هناك مكان للتشكيك في السيطرة على الفلسطينيين أو في استخدام القوة العسكرية. وبدلاً من ذلك، تحوّل التركيز الليبرالي إلى حقوق الفرد اليهودي في إسرائيل – حقوق النساء، ومجتمع الميم، وفي مواجهة المؤسسة الدينية الحاخامية. في كل هذه القضايا، اعتُبرت الخدمة العسكرية ساحة أساسية لدفع هذه الحقوق قُدمًا. رغم أن بدايات هذه المسارات تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، فإن البروز العلني الكبير الذي حظيت به، وانفصالها التام عن مسألة الاحتلال، اكتسبا أهمية مضاعفة بعد الانتفاضة الثانية. فقد جرى تمثيل النسوية وحقوق مجتمع الميم بصور طيّارات مقاتلات، وضابطات وضباط مثليين، فيما تراجعت كليًا الصلة التي كانت قائمة في التسعينيات بين هذه النضالات وحقوق الفلسطينيين. وهكذا، فُتِح الطريق أمام شرعنة خطاب حقوقي عنصري – حيث تحوّلت المطالبة بالمساواة إلى مساواة في الحقّ بقمع الفلسطينيين والفلسطينيات وقتلهم.
مثّل هذا الخطاب أيضًا “المعسكر الليبرالي” في المظاهرات ضد “الإصلاح القضائي” عام 2023. فقد عبّرت الهتافات المقطّعة “دي-مو-قرا-طية” عن التطلّع إلى الحفاظ على الذات الليبرالية، حيث كان كل من المحكمة العليا و”الإدارة السليمة” عناصر أساسية في وعيها الذاتي. أما الاحتلال والحصار على غزّة – وكذلك القمع الطبقي داخل إسرائيل – وهي القضايا الجوهرية لتلك “الديمقراطية” التي لم تتحقق قط بين النهر والبحر، فقد جرى استبعادها بشكل شبه كامل من المنصات المركزية للاحتجاج. وبهذا، عبّرت الحركة الاحتجاجية عن حدود الليبرالية الإسرائيلية: تلك التي تبني ذاتها عبر معارضتها لليمين، من دون أن تقف في وجهه فعليًا.

وهذا ما كان أيضًا في اللحظة التي سبقت السابع من أكتوبر: لم تنتقد الليبرالية الإسرائيلية خطوات اليمين، بل الشكل الذي اتُّخذته- فطالب باللياقة بدلاً من القسوة الفجّة. هذه هي الشروط التي سمحت بتكوّن الليبرالية الإبادية في إسرائيل. وقد شكّلت تلك اللحظة اكتمال التحوّل. فالليبرالية الإسرائيلية التي نشأت في ثمانينيات القرن الماضي، رغم كل قيودها، اعتبرت مسألة الوجود الفلسطيني والاحتلال جزءًا مركزيًا من التصوّر الليبرالي ذاته، حتى وإن كان ذلك من زاوية نفعية وخوفًا من الأثمان التي قد تدفعها إسرائيل في الساحة العالمية. لكن، حين تبيّن أن هذه الأثمان ليست مرتفعة إلى هذا الحد، وأن الدول العربية أيضًا مستعدة لأن تترك الفلسطينيين لمصيرهم تحت عجلات التطبيع والرأسمالية العالمية، تحوّلت الرغبة في “الانفصال”- التي جسّدتها المعادلة “نحن هنا وهم هناك”- إلى مجرّد تجاهل. وهكذا انقلبت النرجسيّة إلى ليبرالية متمايزة وعمياء، بعيدة كلّ البعد عن البُعد السياسي– أي مطلب إنهاء الاحتلال.
بالنسبة للمعسكر الليبرالي، لم تكن هجمات حماس وما رافقها من جرائم سوى عنف من أجل العنف، موجَّه ضد اليهود لمجرّد كونهم يهودًا. وهكذا، انخرط الليبراليون بحماسة في تنفيذ أوامر الحكومة بالقصف والتدمير في غزة. ومن شعارات “الديمقراطية” تحوّلت موارد المعسكر الليبرالي نحو الإنكار، مقرونة باتهام “المسيحانيين” بأنهم المسؤولون عن إطالة أمد “الحرب” وعن التخلي عن الأسرى. إن إدراك دور الليبرالية في إنتاج البنية التبريرية للإبادة أمر أساسي لإيجاد السبل لوقفها. فهو يكشف أن الأفق السياسي لا بد أن يتجاوز حدود النرجسية والعمى الليبراليين القائمين على مطلب “الانفصال”، نحو اعتراف شامل بالحقوق الوطنية الفلسطينية، وبضرورة تقاسم السلطة والموارد المادية، والمطالبة بقيام حياة مشتركة ثنائية القومية.
أفي-رم تسورف مؤرّخ، يُدرّس في الجامعة المفتوحة، كلية “سبير”، وجامعة بن غوريون. وهو عضو في هيئة “أكاديميا من أجل المساواة”، وناشط في حركة “أرض للجميع”، الكولكتيف الشرقي–المدني، وجمعية “زوخروت”.
לב גרינברג, שלום מדומיין-שיח מלחמה: כשל המנהיגות, הפוליטיקה והדמוקרטיה בישראל 1992 – 2006. תל אביב: רסלינג, 2007.
יגיל לוי, יורים ולא בוכים: המיליטריזציה החדשה של ישראל בשנות האלפיים. רעננה: למדא, 2023.
אורלי נוי, “ברק בהאג: שוב ד”ר ג’קיל מתבקש להגן על פשעי מיסטר הייד,” שיחה מקומית, 8 בינואר, 2024
אמנון רז קרקוצקין, “תהליך שלום המבוסס על הפרדה אינו הפיתרון“, שיחה מקומית, 26 באוקטובר, 2020
Lev Luis Grinbeg, Politics and Violence in Israel/Palestine: Democracy versus Military Rule. New York: Routledge, 2010.
Orly Noy, “At The Hague, Aharon Barak will play Dr. Jekyll to Israel’s Mr. Hyde,” +972 Magazine, January 10, 2024.
Arie Krampf, “Israel’s Neoliberal Turn and its National Security Paradigm“, Polish Political Science Yearbook 47:2 (2018): 227-241.
Amnon Raz-Krakotzkin, “A Peace Without Arabs: The Discourse of Peace and the Limits of Israeli Consciousness”, in After Oslo, edited by G. Giacaman and D. J. Loenning (London and Chicago: Pluto Press, 1998), pp. 59-76.