تخطى إلى المحتوى

عن الإنسانيّة والاحتياجات الخاصة في حرب الإبادة على غزّة

عَنات غرينشتاين

يهدف هذا المقال إلى غايتين. الأولى هي سرد التجارب الفريدة للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة في غزة. غالبًا ما تُدفع هذه التجارب إلى الهامش بسبب نزع الإنسانية عن الغزّيين وتجاهل حياتهم وموتهم في الإعلام السائد، وكذلك بسبب الهامشية التي يحتلها ذوو الاحتياجات الخاصة في الخطاب العام. أما الغاية الثانية فهي النظر إلى حياة الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة في غزة كجزء من سرد إنساني أوسع، سرد لا يحاول إخفاء الهشاشة والاعتماد المتبادل اللذين يشكّلان جوهر الوجود الإنساني. فالإعاقة ليست ظاهرة استثنائية منفصلة بشكل كامل عن “الحياة الطبيعية”، ولا تكمن حصريًا في أجساد المعاقين. فجميعنا معرّضون لأن نصبح أشخاصًا ذوي إعاقة. في الواقع، الغالبية الساحقة ممن يعيشون مع إعاقة لم يولدوا كذلك، بل أصبحوا معاقين خلال حياتهم بسبب أمراض، حوادث، ظروف بيئية أو حروب. هذه الظروف لا تتوزع بالتساوي، بل تُصيب بشكل غير متناسب الفقراء والمهاجرين والفئات المهمشة. نحو ٨٠٪ من الأشخاص ذوي الإعاقة يعيشون في دول الجنوب العالمي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الكثير من الصعوبة والوحدة والألم في حياة الأشخاص ذوي الإعاقة تنبع بدرجة كبيرة من بيئتهم المادية والاجتماعية، أي من البنى المادية والسياسية والاجتماعية التي لا تأخذ احتياجاتهم بالحسبان، وليس فقط من الجوانب الفسيولوجية للإعاقة. من هنا، فإن نضالات التحرر يجب أن تشمل مقاومة آليات الإيذاء التي تُنتج الإعاقة، إلى جانب بناء مجتمع شامل يُزيل الحواجز أمام المشاركة في الحياة الاجتماعية ويعترف بقيمة ومعنى الحياة مع الإعاقة.

قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣، كانت حياة الفلسطينيين من ذوي الاحتياجات الخاصة متأثّرة بشكل كبير بسياسات الفصل العنصري والحصار الإسرائيلي على غزّة. فمنذ سياسة “تكسير العظام” في الانتفاضة الأولى وحتى إطلاق النار المتعمّد على رُكَب المشاركين في مسيرات العودة في عامَي 2018–2019، أنتجت إسرائيل فعليًا الإعاقة عبر عنف عسكري مباشر. وكما تشرح جاسبير بوار في كتابها The Right to Maim، فإن الإيذاء الجسدي ليس دومًا نتيجة عشوائية للعنف، بل يمكن أن يكون سياسة متعمّدة هدفها الحد من قدرات مجتمعٍ مُستهدَف وإضعافها. ويتم ذلك عبر مسارين متوازيين: إيذاء مباشر للجسد، إلى جانب تآكل أنظمة الرعاية والدعم التي تمكّن من إعادة التأهيل، أو الشفاء، أو تهيئة البيئة المادية والاجتماعية.

هكذا، فإن سنوات من تقليص إمدادات الكهرباء لغزّة ولمناطق من الضفة الغربية جعلت من الصعب جدًا على الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة ممن يعتمدون على المصاعد، وأجهزة التنفّس، والكراسي المتحركة الكهربائية، والمركبات الطبية، مغادرة منازلهم أو المشاركة في التعليم أو سوق العمل أو النشاط الاجتماعي. وتحت الحصار المفروض منذ ٢٠٠٧ وبحجّة “الاستخدام المزدوج” (العسكري والمدني)، مُنِع إدخال قطع غيار وبطاريات لأجهزة السمع والكراسي المتحركة، وكذلك ألياف الكربون المستخدمة لتثبيت البتر وصنع الأطراف الصناعية. وقد أدّت القيود على دخول المعدات الطبية المتقدّمة، إلى جانب تقليص فرص خروج الأطباء والمعالجين للتخصّصات والدورات، إلى خلق نظام صحيّ هشّ يضطر من خلاله المرضى إلى الخروج للضفة أو الخارج لتلقّي العلاج في الحالات المعقدة. هذا الوضع يزيد العبء الاقتصادي والرعاية على الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة وأُسرهم، ويعمّق تبعيتهم لنظام التصاريح الإسرائيلي وخضوعهم لتحقيقات جهاز الامن الداخلي – الشاباك، التي تصل حدّ الابتزاز والتهديد.

ومع ذلك، وعلى الرغم من الحصار والفصل العنصري وسياسة الإيذاء الإسرائيلية، نجح الأشخاص ذوو الإعاقة في بناء شبكات دعم معقّدة. هذه الشبكات تعتمد على المساعدة المتبادلة الأسرية والمجتمعية وعلى منظمات الإغاثة الدولية التي تُشغّل برامج العلاج والتأهيل والتعليم، إلى جانب نضال منظمات المجتمع المدني من أجل العدالة والمساواة للأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة. هذه المنظمات تُشدّد على أن الإعاقة قضية سياسية مرتبطة بحقوق الإنسان، لا مسألة خيرية تُختزل في المساعدات الإنسانية. وفي الوقت نفسه، تُطالب المجتمع الدولي بالاعتراف بالعلاقة الوثيقة بين الاحتلال الإسرائيلي وإنتاج الإعاقة في فلسطين. ومن الأمثلة اللافتة على ذلك مجموعة Gaza Sunbirds، وهي مجموعة من راكبي الدراجات الذين فقدوا أقدامهم خلال مسيرات العودة وتدرّبوا للمشاركة في الألعاب البارالمبية في باريس خلال العام الماضي. في بدايات حرب الإبادة، نظّم أعضاء المجموعة حملات تبرع من جمهورهم الدولي، ووزّعوا الغذاء والدواء مستخدمين درّاجاتهم للوصول إلى من لا يستطيعون السير في الطرق المدمّرة.

لقد تصاعد المساران اللذان تعتمد عليهما إسرائيل في إيذاء سكّان غزّة العنف المباشر وتآكل البُنى التي تمكّن من إعادة التأهيل والمشاركة بصورة مضاعفة خلال العامين الماضيين. فمنذ اليوم الأول لحرب الإبادة، أدى القصف الكثيف، وعمليات الإخلاء المتكرّرة، وتدهور الوضع الإنساني إلى قلب حياة الجميع في القطاع، لكن تأثيرها على الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة قاتل بشكل خاص. أولًا، كثيرون لا يستطيعون الهرب بسرعة من المباني المقصوفة والمشتعلة. كما يواجه الأشخاص من ذوو الاحتياجات الخاصة مثل المشاكل السمعية المحاصَرون تحت الأنقاض صعوبة في التواصل مع فرق الإنقاذ أو سماع نداءاتهم. ثانيًا، إن الإخلاء إلى المناطق التي تصفها إسرائيل بأنها “آمنة” بالغ الصعوبة للأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة ولعائلاتهم، خصوصًا في ظل تكرار الإخلاءات. فالإخلاء يتطلّب السير لمسافات طويلة على طرق مدمّرة، في ظل نقص حاد في الوقود والمركبات. معظم الملاجئ ومخيمات النازحين غير مهيّأة لذوي الاحتياجات الخاصة فالاكتظاظ والضجيج يفاقمان وضع المصابين بالتوحّد، وعدد المراحيض القليل وغير المجهّز يضطر من كان مستقلًّا في منزله لطلب مساعدة ومرافقة في لحظات حميمة.

يذكر تقرير للأمم المتحدة من أغسطس الماضي أنّ ٨٣٪ من ذوي الاحتياجات الخاصة فقدوا الوسائل الأساسية، مثل أجهزة التنفّس، الفرشات المانعة للتقرّحات، الكراسي المتحركة، العكّازات، وحتى النظارات أو أجهزة السمع، دون إمكانية توفير بدائل عنها. وهذا لا يشمل النقص لدى من أصبحوا ذوي الاحتياجات الخاصة خلال الحرب. فقدان هذه الوسائل يزيد صعوبة الحركة والعمل، ويعمّق التبعية للأسر، ويُفاقم القلق والاكتئاب وفقدان الشعور بالقدرة والثقة بالنفس. كما أدّت موجات النزوح المتكرّر إلى انهيار شبه كامل لشبكات الدعم المجتمعية، التي كان الأشخاص ذوو الاحتياجات الخاصة يعتمدون عليها يوميًا. وهم كذلك أكثر عرضة للانفصال عن أسرهم أثناء الهرب، والاعتماد على الغرباء، ما يزيد مخاطر سوء المعاملة والاستغلال والاعتداء الجنسي.

أدّى القصف المكثّف إلى عشرات الآلاف من الإصابات التي تحوّلت إلى إعاقات دائمة. ووفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية، حتى نهاية سبتمبر ٢٠٢٥ أصبح أكثر من ٤٠ ألف جريح حرب بينهم أكثر من ١٠،٠٠٠ طفل أشخاصًا من ذوي الاحتياجات الخاصة. وتشكل الإصابات النفسية جزءًا أساسيًا من الصورة، إلى جانب فقدان البصر والسمع، الإصابات العصبية، وآلاف حالات بتر الأطراف. وبسبب الجوع ونقص المضادات الحيوية ومعدات التعقيم وأسرّة المستشفيات، تتدهور جروح كان من الممكن علاجها قبل حرب الإبادة، وتلتهب وتستدعي البتر. أما الأطفال دون سن الثانية عشر، فإن إعادة التأهيل بعد البتر تتطلّب غالبًا سلسلة عمليات طوال سنوات النمو لتناسب الطرف المبتور مع نموّ الجسم.

إن تدمير البنى الحيوية، الكهرباء والماء والغذاء والنظام الصحي والتأهيلي يؤثر على الجميع، لكن تأثيره فوري وخطير جدًا على الأشخاص ذوي الإعاقة والأمراض المزمنة الذين يحتاجون إلى رعاية مستمرة. فالنقص في الأدوية الأساسية لأمراض مثل السكري وارتفاع الضغط يزيد احتمال حدوث مضاعفات خطيرة تصل إلى العمى، بتر الأطراف، النوبات القلبيّة والجلطات، ما يحوّل المرض إلى إعاقة. كما يؤدّي نقص المهدّئات والأدوية النفسية إلى انهيارات وانفجارات سلوكية تُثقل على المريض والمحيط وتزيد الوصمة تجاه ذوي الإعاقة النفسية أو الإدراكية.

أثر الجوع وتقليص أنواع الغذاء المتوفّر تأثيرًا كبيرًا على الحياة في القطاع. فسوءَ التغذية يضعف المناعة ويجعل الجسد أكثر عرضة للأمراض، كما يبطئ شفاء الجروح. حتى قبل التوقّف الكامل لإدخال المساعدات في الثاني من مارس\ أذار ٢٠٢٥، كانت نقاط توزيع الطعام مزدحمة وغير مهيّأة، ما صعّب وصول الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة. ومع الانتقال الى تحديد أربع نقاط توزيع فقط تابعة لصندوق غزة للمساعدات الإنسانية ـ GHF، أصبحت إمكانية الوصول شبه مستحيلة، إذ كانت النقاط بعيدة، واضطر الناس لتجنّب إطلاق النار المستمر من الجيش وشركات الأمن الأمريكية الخاصة. الجوع يصيب الأطفال أوّلًا، وتؤثر نتائجه على صحتهم ووظائفهم لسنوات، بل وأجيال. وكان أول من يموتون جوعًا أطفالًا ذوي شلل دماغي وأمراض مزمنة كالتليّف الكيسي، الذين يحتاجون لطعام مهروس وغني بالبروتينات والفيتامينات وعالي السعرات، مثل اللحوم والبيض والفواكه الطازجة، وهو غائب بشكل شبه كلي من القطاع حتى وقف إطلاق النار في أكتوبر ٢٠٢٥.

في ذروة الحصار بين شهري مارس – مايو ٢٠٢٥، وفي الأشهر التي تلتها، استخدمت وسائل الإعلام والدعاية الإسرائيلية حقيقة أن الأطفال الأوائل الذين ماتوا جوعًا كانوا من ذوي الاحتياجات الخاصة كـ”دليل” على أن الموت جوعًا ليس نتيجة سياسة، بل نتيجة بيولوجية طبيعية، رغم أن أطفالًا في الوضع الطبي نفسه في إسرائيل والعالم الغربي يعيشون حتى البلوغ ويعيشون حياة كاملة. هنا يتقاطع نزع الإنسانية عن ذوي الإعاقة مع نزع الإنسانية عن الفلسطينيين في خدمة منطق الإبادة. في هذا الخطاب، تُقدَّم حياة ذوي الإعاقة كخطأ إحصائي، هشة بطبيعتها، والموت هي “حالته الطبيعية” المتوقعة. هذه الرؤية تخدم غايتين: الأولى إعفاء إسرائيل من المسؤولية الأخلاقية عن قتل الأطفال، إذ يُصوّر موتهم كنتيجة “طبيعية” لإعاقتهم، والثانية تصوير الفلسطينيين كـ”مزوّرين”. كما تساهم في قمع حقيقة هشاشتنا الإنسانية المشتركة تجاه الموت أو المرض أو الإعاقة، واعتمادنا المتبادل على بيئة داعمة لاحتياجاتنا. في مواجهة عمليات نزع الإنسانية ومنطق الإبادة، نحن بحاجة إلى بُنى اجتماعية وتصوّر سياسي يعترف بقيمة حياة الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، ليس فقط في غزّة، بل بوصفها جزءًا لا ينفصل عن النسيج الهش والمتغيّر للحياة الإنسانية.

د. عَنات غرينشتاين هي منسّقة أكاديمية في المركز لدراسات ذوي الإحتياجات الخاصة في الجامعة العبرية، وناشطة نسوية وامرأة ذات إحتياجات خاصة. 

للقراءة المزيد:

מהדי, איבתיסאם. המלחמה בעזה לא מרחמת גם על בעלי מוגבלויות. שיחה מקומית. 30 בספטמבר, 2024

European Disability Forum: Statement on the Situation of Persons with Disabilities in the Occupied Palestinian Territory. August, 2025.

Global Disability Fund: Situational Analysis – Persons with Disabilities in the Occupied Palestinian Territory. August, 2025.

Human Rights Watch: They Destroyed What Was Inside Us – Children with disabilities amid Israel’s attacks on Gaza. September 2024.