حلّ الجوع الذي صنعه البشر هو التوقّف عن التجويع
بقلم: عَلْما إيچرا
ترجمة: إياد برغوثي
كتب جون بُويد أور، مؤسِّس منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (FAO)، في خمسينيات القرن الماضي أنّ “الذين يموتون جوعًا لا يموتون بصمت”. هذا القول غير صحيح، هو نفسه كان يعلم ذلك، من ذاكرته الحيّة بالتأكيد. فكلّ من عاش في خمسينيات القرن العشرين حمل في ذاكرته صور أناس ماتوا جوعًا، صورًا سكت عنها العالم حينها، ثم شجبها بشدّة بعد فوات الأوان. ربما ما كان يقصده أور هو أنّ الذين يموتون جوعًا يحاولون ألّا يموتوا بصمت، يحاولون أن يُسمِعوا صرختهم، لكن غالبًا لا أحد يصغي إليهم.
يشكّل “شتاء الجوع الهولنديّ” أغرب حالات الجوع التي رافقت الحرب العالمية الثانية. لم تكن تلك المجاعة هي الأوسع أو الأعنف من حيث عدد الضحايا المدنيّين، لكنها كانت فريدة من نوعها، إذ لم يسبق أن مات جوعًا أناس بيض إلى هذا الحد، أثرياء إلى هذا الحد، ومتعلمون إلى هذا الحد. ففي شتاء 1944–1945، عانى 2.6 مليون هولنديّ من الجوع، ومات منهم عشرون ألفًا خلال تلك الفترة نفسها. جرى ذلك في واحدة من أغنى دول أوروبا وأكثرها ترابطًا، وفي مرحلة كانت فيها أوضاعها الاقتصاديّة جيدة نسبيًا. كانت مجاعة “من الدرجة الأولى”، اي الاصعب، وجرى توثيقها في مستشفيات حديثة بأجهزة لم يكن لسكان بولندا أو روسيا — الذين جاعوا هم أيضًا في الحرب — أن يحلموا بها.
وكحال معظم حالات التجويع الجماعيّ، ارتبطت مجاعة هولندا بقرار عسكريّ متعمّد بالتجويع. فقد فرضت القوات النازيّة حصارًا استمرّ شهورًا، قطع خطوط الإمداد إلى غرب هولندا في محاولة لكسر المقاومة المحليّة. وفي الوقت نفسه، انهارت منظومة الغذاء انهيارًا متدرّجًا، لم يكن كلّه مخطّطًا أو ألمانيًا بالضرورة. إذ أعلنت الحكومة الهولنديّة المنفية في لندن إضرابًا لعمال السكك الحديديّة في سبتمبر 1944، كخطوة مقاومة لدفع القوات الألمانيّة إلى الانسحاب من غرب البلاد، لكنّ الإضراب تحوّل إلى أزمة مواصلات وإمداد شاملة قطعت الغذاء والوقود وغاز الطبخ وحتى البريد عن المدن الغربية في هولندا. بالإضافة إلى ذلك، فشلت كلّ محاولات الإنذار بالمجاعة أو الضغط على الحلفاء للسماح بدخول المساعدات.
الموت جوعًا هو موت بشع ووحشي. لا يريد الناس أن يموتوا بصمت. الهولنديون أيضًا لم يريدوا ذلك، لكن العالم لم يشأ أن يسمع. في مرحلة ما، خاطبت الملكة ويلهلمينا — ملكة هولندا — الجمهور البريطاني عبر الـBBC، في محاولة تحريك الضمير العام، لكن ذلك لم ينجح. لم تكن بريطانيا والولايات المتحدة، أي الحلفاء، هم من حاصروا هولندا مباشرة، لكنّهم كانوا يعلمون في حينه أنّ ملايين الهولنديين يتضورون جوعًا ولم يتدخلوا. كانوا يريدون مواصلة الضغط الاقتصاديّ على الألمان وحرمانهم من الوقود والإمدادات التي قد تعزّز قدراتهم العسكريّة. هكذا، وجد الهولنديّون أنفسهم بين فكي كماشة: حصار ألمانيّ يهدف إلى استخدام الجوع كسلاح ضغط من جهة، وحصار حلفاء فضّلوا استمرار الخنق الاقتصادي ّمن جهة أخرى. عانت هولندا من جرائم الحرب النازيّة، ومن تجاهل الحلفاء “التكتيكيّ”، ومن فشل قيادتها المنفية. استخدم الألمان التجويع كوسيلة لتحقيق غايات سياسيّة، وساهم الآخرون، صمتًا أو تواطؤًا، في انهيار منظومة الغذاء وتفاقم الكارثة.
خلال شتاء 1944–1945، ناقش مجلس الوزراء البريطانيّ مرارًا إمكانية إدخال الغذاء إلى هولندا، لكنّ الأولوية بقيت للأهداف العسكريّة، وعلى رأسها منع أي إمداد قد يفيد القوات النازيّة، هذا بالرغم من أنّ بريطانيا كانت تنظر إلى الهولنديين نظرة مختلفة عن شعوب أوروبا الشرقية، مثلًا، باعتبارهم وفق التصوّر البريطانيّ أندادًا حضاريّين ضمن هرميّة استعماريٍّة عنصريٍّة تصنّف الأمم حسب العِرق والتقدّم التكنولوجيّ. كانت هولندا، مثل بريطانيا، إمبراطوريّة أوروبيّة كبيرة بنظام ملكيّ استعماريّ. من منظور الرأي العام البريطانيّ، كان الهولنديون “أناسًا من غير المفترض أن يجوعوا”. ومع ذلك، ما دامت أهداف الحرب لا تتوافق مع إنهاء أزمة الجوع، فقد سمح البريطانيون لـ2.6 مليون هولندي بأن يتضوّروا جوعًا، وهم على علمٍ تام بما يحدث.
لا يريد الناس أن يموتوا بصمت، لكن من يُجوّعهم يبتكر دومًا وسيلة كي لا يسمع. إحدى تلك الوسائل كانت إسقاط الطعام من السماء. يبدو إلقاء الطعام من الجو مشهدًا رائعًا يلتقطه الإعلام بسهولة وصوره جميلة. تزخر الذاكرة الوطنية الهولندية بصور طائرات الحلفاء تُسقط المساعدات، وجموع الناس تهتف وترفع الأعلام. كانت ساحةُ غربِ أوروبا الغنيّة ساحةً تملك كاميراتٍ متقدّمة وصحافةً ناشطة، وكانت صورُ «المنّ النازل من السماء» آسرةً للقلب، سواءً لدى السكّان الهولنديين اليائسين أو لدى الحلفاء الذين أرادوا التوقّف عن سماع أخبار الجوع. سمّت بريطانيا العملية “عملية المَنّ” (Operation Manna)، في استعارة توراتيّة واضحة، كما لو أنّ السماء ترسل الخلاص.
-

طائرة بريطانية تقترب بعد أن أسقطت الطعام فوق القاعدة العسكرية إيبنبورج جنوب لاهاي خلال “عملية مانا”، عام 1945. المصور: غير معروف.
لكنّ إسقاط الطعام لم ينجح فعليًا. الكميات لم تكن كافية، والبنى التحتية اللازمة للإطعام لم تكن موجودة أو كانت منهارة. لم يترافق إسقاط الطعام بمنظومة التوزيع المطلوبة في حالات الجوع، بحيث تمكّن من إعطاء أولويّة للفئات الأكثر تعرّضًا للأذى، مثل الأطفال والمسنين. عندما يتضوّر الإنسان جوعًا يحتاج إلى الإشراف الطبيّ اللازم، وليس كمية غير محدود من الأكل فقط، إذ إنّ الانتقال المفاجئ من الجوع إلى الأكل قد يسبب صدمة قاتلة للجسد في الكثير من الأحيان ويؤدّي إلى الموت. على نحوٍ ساخر، سمّى الأمريكيون عمليتهم المشابهة “عملية الشره” (Operation Chowhound)، وكان للاسم نصيبه من الحقيقة، إذ مات بعض الناس من الأكل بعد التجويع الطويل. كانت عملية إسقاط الطعام مؤثّرة لكنها كانت أيضًا عديمة الجدوى تقريبًا. بعد أسبوع فقط على انتهائها، استسلم الألمان، وبدأت البلاد تتعافى، بما في ذلك تقديم علاجات طبيّة جوهريّة للأجساد التي أنهكها الجوع.
في الحقيقة، لم يُسجَّل في التاريخ البشري أيّ مثال على أن إلقاء الطعام من السماء أنقذ بشرًا من مجاعة، ما دام هناك من يعمل على تجويعهم على الأرض. والسبب لذلك بسيط: الغذاء هو منظومة معقّدة من اللوجستيات والطهي والتبريد والنقل والتوزيع. التجويع المتعمَّد يدمّر هذه المنظومة كلها. لكي يتحوّل الغذاء إلى طعامٍ فعليٍّ، أي ليصل إلى من يحتاجونه، لا بدّ من وجود شبكاتٍ واسعة من العلاقات البشريّة والتكنولوجيّة والبيئيّة. فالتجويع المتعمّد يدمّر هذه المنظومة بكامل مكوّناتها.
لهذا السبب، فإن إسقاط المساعدات جوًا، كما جُرّب في قطاع غزة مرات عدّة خلال العامين الماضيين، ليس هو الحل، بل هو استعراض من أجل العلاقات العامة. يُسقِطون طحينًا، ولا مكان لخبزه. يُسقِطون حليب أطفال، ولا مياه معقَّمة لتحضيره. يُسقطون الطعام في مكان معيّن بينما يموت الناس في مكان آخر. يُسقطون على من يعاني من جوع بمرحلة متقدّمة بحيث أنّ مجرّد الأكل في هذه المرحلة سيقتله. ماذا يمكن لأسرة أن تفعل عندما يُسقِطون المعكرونة من السماء بينما هي لا تملك مطبخًا أو كهرباء أو ماءً أو حتى صحنًا؟ كيف يخطّطون كمية الأكل التي سيأكلونها اليوم بينما لا يعرفون إن كان سيبقى ما يُؤكل غدًا؟
الطعام هو أمر قائم فقط ضمن نسيج متكامل. حين يُدمَّر نسيج الحياة المتكامل – بالقصف، وبالأوبئة، بالقتل الجماعيّ، بإبادة المستشفيات، بقتل عمال الإغاثة، بحرق البيوت وتسويتها بالأرض، فإنّ “المَنّ النازل من السماء” لا يُغيّر شيئًا. تزداد قسوة وبشاعة القتل عبر التجويع عندما يكون ضمن تدمير كلّ شيء، عندها لا يمكن للطعام وحده أن يُنقذ، لا بالمعنى الجوهريّ، ولا حتّى من الجوع.
قبل أسابيع أعلن الجيش الإسرائيلي أنه رغم عدم وجود مجاعة في القطاع، سيسمح بإسقاط المساعدات جوًا. مفارقة مريرة أخرى من سلسلة الشعارات الاسرائيلية المألوفة: “المخطوفون يعانون لكنهم لا يموتون”، و”نحن على بُعد خطوة من النصر الكامل”. قد يكون هذا كله حملة دعائية لتغيير صورة إسرائيل في العالم، وربما تكون صور الجوعى قد صدمت بعض القادة العسكريّين. لكن على أي حال، يجب القول صراحة إنّ احتمال استفادة الناس في غزّة من هذا شبه معدومة. فعليًا، يخدم إسقاط المساعدات بالأساس من يحاول كسب الوقت وتجنّب الإصغاء. المساعدات الإنسانيّة في زمن الحرب ليست معقَّدة لوجستيًا فقط (المطبخ، الماء، التوزيع، التبريد، النقل)، بل سياسيًا قبل كل شيء. لا يمكن أن تحاول قتل الجميع… وفي الوقت ذاته تحاول ألّا تقتلهم.
يُذكّرنا “شتاء الجوع” في هولندا أنّه حتّى عندما لم يكن الضحايا من مستعمرات بعيدة أو من أصحاب البشرة السوداء أو البنية، فإن من يريد ترك الناس يموتون جوعًا سيتظاهر بأنه لا يسمع. كما يذكّرنا بأنّ الجيوش التي تدير حروبًا تُفضّل دائمًا حسابات الحرب التكتيكيّة على أيّ اعتبار آخر. في نهاية المطاف، أبقى كلّ من الألمان والبريطانيين المجاعة الهولندية قائمة إلى أن انتهت فائدتها العسكريّة. والأمر ذاته سيحدث في غزة. وما دامت المجاعة قد أصبحت أداة من أدوات الحرب، والعالم لا يفعل سوى رفع إصبع الاتهام، فلن يتخلى عنها التحالف الإسرائيلي–الأمريكي الذي يصنعها. السبيل الوحيد لوقف مجاعة غزة هو وقف الحرب التي تخدمها.
الدكتورة عَلْما إيچرا محاضرة في قسم الدراسات الأوروبية بجامعة أمستردام. تركز أبحاثها على تاريخ الجوع والتغذية والتنظيم الدولي للأغذية.
لقراءة المزيد:
Zwarte, Ingrid de. The Hunger Winter: Fighting Famine in the Occupied Netherlands, 1944-1945. Cambridge University Press, 2020.
Zwarte, Ingrid de, and Miguel Ángel del Arco Blanco. “The Allied Blockade and British Politics of Food and Famine during World War II.” In The Politics of Famine in European History and Memory. Routledge, 2025.