تخطى إلى المحتوى

الرحمة كفعل سياسيّ مقاوِم

لواَلاين بارنز

ترجمة: إياد برغوثي

غالبًا ما أجد نفسي عاجزة عن البكاء حين أشرع في ترجمة شهادات الأطباء والطبيبات من غزّة. يهمني أن أُتيح الشهادات، أن أكون جسرًا بين من يملكن المعرفة ومن يردن أن يعرفن. تحفّزني شريكتي على البكاء، تقول لي إن البكاء فعل محرِّر. أعرف أنّ هذا صحيح، لكن لا أتمكّن من ذلك. في الشهادات هناك قصص صغيرة: جريحة تطلب المساعدة، تنزف حتى الموت قبل أن يصلوا إليها بسبب نقص في الطواقم الطبيّة؛ وطفلة دُفنت وهي على قيد الحياة لمدّة ١٢ ساعة بجانب والديها الميتين. 

قبل أشهر مكثت بنفسي في المستشفى. ذكّرتني رائحة مواد التنظيف في المستشفى الإسرائيلي ببرك السباحة. كان الطاقم حاضرًا دومًا: يرفعون لي الوسادة لي حين لا أستطع الحركة، يساعدونني في غسل جسدي في الحمّام. تجارب حسّية، حميمة، مليئة بالرحمة والرعاية، أشعر بامتنان عميق تجاهها. صحيح أنّ المكوث في المستشفى كان تجربة صعبة ومرهقة، لكنه تحوّل بفضل هذه الرعاية إلى تجربة أمان وشعور بالعرفان.

في غزّة، تُقصف المستشفيات مرارًا وتكرارًا. أحيانًا، تغمر الدماء أرضيّة المستشفى، ولا ماء لغسلها. لا ماء لغسل الأيدي، ولا حتى للشرب. لا أسرّة، فتُعالج المصابات على البلاط. أتذكّر الخوف الذي اجتاحني عندما فكّرت: ماذا لو دوّت صفارة الإنذار بسبب صاروخ حوثيّ خلال إجراء عمليتي الجراحية؟ ماذا لو ارتكب أحدهم خطأ بسبب ذلك؟ لم أفكّر فيما قد قد يحصل لو انهار المستشفى كلّه دفعة واحدة.

أترجم شهادات تتشابك لتشكّل حكاية واحدة متماسكة ومرعبة. أريد أن أروي كل ما يقال فيها، أن أحكيها للجميع. لكنّي في الوقت نفسه أضبط نفسي: أحدّد عدد الشهادات التي أترجمها أسبوعيًا. فمن جهة، أخشى أن أغرق في الرعب فأضطر للتوقف؛ ومن جهة أخرى، عندما يطغى عليّ الشعور بالعجز، أترجم. وهذا يساعدني.

في هذه الأيام، تُؤطر المشاعر والأحاسيس والاهتمام بالآخرين كأمور سلبيّة، كفشل أو كخلل في الطباع. يكفي أن نستذكر تصريح بن غفير: “في الحرب يجب سحق العدو، وليس التظاهر باللطافة طوال الوقت”. في المقابل، كتبت مفكّرات مثل كارول جيليجان وإيفا كيتاي عن قوة الرحمة والرعاية، وعن قوّة الانفعال العاطفيّ الرقيق، المختلف عن الغضب والعنف. بالنسبة لهما، الرحمة والرعاية في صميم الوجود الإنسانيّ، وهما أثمن الموارد البشريّة لأنهما تبنيان وتشفيان، ولا تدمران. اقترحت جيليجان وكيتاي طرقًا مختلفة كليًا عن النهج المهيمن الآن، وولذلك يكتسب طرحهما أهمية خاصة في هذا الزمن القاسي. من وجهة نظرهما: بلا الرحمة والرعاية لن تبقى للبشرية أي فرصة للبقاء. منذ الولادة وعلى مدى حياتنا، نعتمد على بعضنا البعض، على الرحمة والرعاية التني نعطيها ونحصل عليها. كتبت كيتاي عن المعنى والفرح الذي وجدتهما في رعايتها لابنتها المُقعدة. الرعاية، وفق كيتاي، تمنح قيمة لمن يقدّمها، ولذلك علينا أن نكون ممتنين لأن حصلنا على الحقّ في تقديم الرعاية.  

هذا بالضبط ما أشعر به تجاه ترجمة الشهادات: رغم صعوبتها، تمنحني شعورًا بالقدرة على الفعل، وتساعدني على الوقوف في وجه اليأس والعجز. أريد أن نعيش في مجتمع تُوجَّه فيه الرحمة لكل حيّ، لكل واحد وواحدة منّا. مجتمع يعترف بالإنسانية المشتركة، ويمنح للرحمة قيمة ومكانًا. مجتمع يوفّر شبكة أمان وتضامن ودعم، ويجعل التنوع والاختلاف قوّة، لا تهديدًا. مجتمع كهذا يصعُب فيه الترويج لأكاذيب عن “الآخر الوحش” الذي يُفترض انه متوحش. مجتمع كهذا يجعل الإبادة الجماعيّة غير ممكنة.

كتبت جيليجان عمّا أسمته “أخلاقيّات الرعاية”، أو بترجمة أخرى “أخلاقيّات الرحمة”، كمفهوم أخلاقيّ يتمحور حول الرعاية والاهتمام. نسبت هذه الأخلاق إلى النسوية، ودعت الرجال لاعتمادها أيضًا. إحدى سمات هذه الأخلاقيات هي الاعتراف بقوّة الرحمة، وبأفضليتها على برود التفوّق الأخلاقيّ. من السهل جدًا أن نترجم هذه الأخلاقيات إلى واقعنا اليوم: أن نشعر بالرحمة تجاه من يموتون عطشًا وجوعًا، بلا دواء، أو بسبب عدم وصول المساعدات. أن نشعر بالصدمة لأن جنودًا يطلقون النار على أشخاص يقفون في طابور الغذاء. هذه هي الأخلاقيات المبنية على الرحمة، في معناها الأوّلي. إنّ ترجمة الشهادات إلى العبرية، كي يتمكّن القرّاء اليهود الإسرائيليّون من مواجهة هذه الحقائق وجهًا لوجه، هي عمل يمكنه، كما آمل، أن يحرك مشاعر الرحمة والصدمة، ويدفع آخرين لللعملفعل وفقها.

كتبت جيليجان أيضًا عن أخلاقيات التأمّل في العالم من زوايا شخصية ومحددة، بدلًا من إطلاق تعميمات جارفـة. بالنسبة لي، هذا يعني أن أتخيّل نفسي حرفيًا مكان شخص آخر. قبل سنوات، عانيت من آلام في ركبتي. لم يكن أمرًا خطيرًا، لكنّه كان كافيًا لأن يسبّب لي ألمًا ويجعل الوقوف صعبًا عليّ. أتخيّل الآن معاناة مضاعفة بكثير لمن في هم غزّة ويعانون من حالة طبية مشابهة. قالت صديقة لي إنها تفعل الشيء نفسه: تتخيّل السير لمسافات طويلة والحياة في الخيام، والاقتلاع المتكرر، بلا دواء أو علاج. لكلّ واحد وواحدة منّا معرفة شخصيّة حول الإنسانيّة المشتركة، يمكننا عبرها أن نفهم ونشعر بتعاطف تجاه الآخرين. وفق هذا المنظور، فإن عبارات مثل “لا أبرياء في غزّة” ليست وحشية فقط، بل خاطئة جوهريًا. بدلاً منها، علينا النظر إلى التفاصيل الصغيرة لحيوات بعينها: طفلة في الرابعة من عمرها مات والداها في القصف الذي أصابها هي أيضًا. طفلة تُركت بلا أحد يواسيها قبل أن تموت متألمة من جراحها.

سمة أخرى لأخلاقيات الرحمة هي عدم اقتصار المفهوم الأخلاقيّ بالمسؤولية الملقاة على الإنسان على بفعل الخير، بل كذلك بالامتناع عن فعل الشر كذلك. ما دمت شريكة – برغبتي أو رغماً عني – في نظام الحرب، فأنا أساهم في إحداث الأذى. لكن جيليجان تقترح: بإمكاني أن أخلق توازنًا بفعل الخير. هناك طرق صغيرة كثيرة للقيام بذلك. بحثت طويلًا عن طريقي الخاص، حتى وجدتتها. صار للترجمة معنى عميق بالنسبة لي: أن أنقل شهادات طبيبات كنّ في غزّة، هذا نوع من النضال أستطيع أن أشارك فيه، من موقعي كمعوّقة وبما أملك من مهارات. تتيح الترجمة لي أن أكون جزءًا، ولو صغيرًا، من سلسلة المسؤولية والرحمة. لديّ الامتياز لأن أصغي بقلبي وأنقل كلمات من يقمن بالعمل الكبير.

مقابل التصوّر السائد في إسرائيل الآن، الذي يرى الرحمة في زمن الحرب عيبًا أو ضعفًا في الطباع، تُصرّ جيليجان وكيتاي على أهميتها السياسيّة والاجتماعيّة. بالنسبة لهما، الرحمة هي صلب القضية. وبصراحة: متى تكون الحاجة إلى الرحمة أكبر من زمن ارتكاب إبادة جماعيّة؟ ومن الأكثر رغبة في إسكات الرحمة من مرتكب جريمة الحرب الذي تنسف أفعاله أي أثر للرحمة؟ في عالم يسود فيه نفي الإنسانية وإسكات الرحمة، يصبح الشعور بالرحمة فعلًا راديكاليًا. هذه الكلمة – راديكاليّ – تعني العودة إلى الجذر. هنا تعني العودة إلى الجذر الإنسانيّ المشترك لنا جميعًا، والسعي إلى تغيير المنظومة الجائرة من الأساس. الرحمة هي في جوهرها شعور يرفع المقهور، من يُداس عليه. تدفعنا الرحمة إلى ممارسات تقلّل من الظلم واللامساواة. ليس غريبًا أن تُحارَب الرحمة كي تُقدَّم “الاعتبارات الأمنيّة” على كل ما عداها. لكنّ القضاء على جزء من إنسانيتنا ليس أمانًا. منظومة “أمن” تطلب مني أن أكون غير نفسي، ليست أمنًا أصلًا. بالنسبة لي، عبر الترجمة، أملك شرف أن أكون جزءًا صغيرًا في سلسلة الرحمة.

بعد أن أنهيت كتابة هذا النص، سقط صاروخ على المبنى الذي كنت أعيش فيه. المبنى تدمّر كليًا. بقينا أنا وشريكتي بلا أي شيء. لكن فورًا التفّت حولنا متطوّعات مذهلات: أحضرن لنا طعامًا، ملابس، مستلزمات نظافة. كان ذلك نشاطًا فعل تضامن مُنقذًا، لا أجد كلمات تكفي لشكره. جعلنا نشعر أننا لسنا وحدنا. كم أتمنّى أن تكون في غزّة مثل هذه المساندة، كم أتمنى أن كل من هُدّم بيتها تُحاط فورًا بهذا السخاء. كم أتمنى أن تجدّ كل مصابة تجد استجابة عاجلة. كم أتمنى ألّا يكون هناك جرحى أصلًا، وأن تتوقّف هذه الإبادة حالًا.